مذكرات عبر سنوات عراقية عجاف

في هذه المذكرات قراءة لزمن كان الانسان العراقي فيه ضحية حربين مظلمتين
ابتدأت اولاهما سنة 1980وظلت اخراهما متصلة منذ سنة 1990 م لتتمخض سنة 2003 عن حرب ثالثة ضروس .
وانني اذ انشرها اليوم انما اضع بين يدي قرائي من الجيل المعاصر والقادم
عذابات واحلام واحد من ملايين من ابناء الرافدين ممن عاشوا بشاعة ما حل ببلدهم وظلوا وسيبقون رغم ذلك مصممين ان يعود العراق مشرقا موحدا حرا كريما



***
احمد عبد الله الحسو

المهجر/ كلاسكو 2009 م


(1)

حين نتأمل في حياتنا المعاصرة ، نجد ان ازمة الحرية وغيابها في مجتمعاتنا هي المشكلة الكبرى التي نواجهها .
لا اعني بذلك الحرية السياسية فحسب بل الحرية بمعناها الواسع . ان من يتأمل في حياتنا يدرك بوضوح اننا اسرى تربية خانقة ورثناها عبر تاريخ طويل ...
انها تربية زرعتها عقول مراحل التجهيل والامية والتقليد في حقب التراجع التاريخي ، وهي تربية خارجة تماما عن فلسفة الاديان و ما صدح به القران الكريم من تكريم للانسان ، بل وهي النقيض لطروحات كثير من رجال الفكر ممن كافحوا من اجل الحرية.
من هنا فان غياب الحرية وبمعنى ادق حالة الاسر لم يقتصر على فئة دون اخرى من شرائح المجتمع ، فثمة حشود من الماسورين والاسرين ، من الظالمين والمظلومين ، وهم جميعا في نظري ضحية تجربة تاريخية اكلت الاخضر واليابس في حياتنا وما تزال
فهل نحن قادرون على ان نعيد حساباتنا ونخضع ثقافتنا وانفسنا للنقد فننقذ اجيالنا القادمة مما نحن فيه ؟

كاني بالابواب مقفلة وكاني بمرجان في قمقمه يمسك بتلابيب الحرية عبر كل هذا الزمن الطويل فلا يدعها تحيا بناولا يدعنا ننعم بها .
ذلك هو ماعبرت عنه وانا امر بحالة يأس في قصيدتي التالية بعنوان

حريتي ...

كلمة* ليس لها ضفاف
لم تبتديء
لم تنته
من قبل ان تكون
لكنها ممعنة في السير
عبر رحلة طويلة المدى
في كل بذرة تكون
وحيث تولد الزهور والرياض
دائمة تكون
حريتي
حرية الاسر والمأسور
حرية الاحرار ليس لهم ان ينطقوا
في وضح النهار
حرية العاشق يقتل اذ يحب
حرية ما تزال منذ الف عام
في قمقم يملكه مرجان
في قمقم يملكه مرجان



وهران/ الجزائر 1983

__________________________________

* بكسر الكاف وتسكين اللام




( 2 )

عندما تتبلد اللحظة


عندما تتبلد اللحظة فتمسك بظلها الثقيل بخناقي
عندما يغزو عوالم الجمال في عبث
ارتطم به يمنة ويسرة
عندما تغتال نشوة اعماقي قهقهات تولد في غير زمانها
عندما تتكسر ذاتي فوق نتوءات هنا وهناك
عندما يكون ما لا يكون
هنالك القي باحمالي في افياء حرف
واتفيأ ظلال كلمة
ظمأ ولا ماء
عشق ولا ضفاف *

الموصل 1980 م




---------------------------------
• * نشرت هذه القصيدة في مجلة : الاغتراب الادبي (العدد : 42 السنة الرابعة عشرة ، 1999 التي كان يصدرها في لندن الصديق العزيز و الاديب الشاعر صلاح نيازي.




( 3 )


الغضب المنهمر

يا ايها الغضب المنهمر من كل صوب
على رسلك ...
لقد نسف بيت جاري...
تمزق الطفل الرضيع
تمزق سعد اشلاء
اخرجوه من بين الانقاض اربا اربا
لم يفرقوا بين اجزاء جسده الغض
لقد اختلطت بالسواعد التي كانت تحمله
لقد تناثرت هي الاخرى
لم يبق من البيت الا واحد من اعمدته
ركام ودخان
ومطر غزير
وصفارة انذار
ولافتة تنعي سبعة من
ممن كانوا قبل لحظات يحيون
كما يحيى كثيرون في هذا العالم الرحب الوسيع
كثيرون هم الذين انتزع الرصاص ارواحهم من قبل ومن بعد
كان موت سعد كما هم يتفجر تساؤلا
لماذا؟ لماذا يموت الناس؟
وكنت انا اغرق في تساؤلاتي
لم اجد جوابا
الطائرات تمعن في حصد المارة في شوارع المدينة
الناس يركضون ...
يختبئون ...
ويسقطون ...
اما انا فقد واصلت طريقي وانا اردد:
يا قاتلا ضحكات سعد
نكون او لا نكون
وجودنا هو العراق
وجودنا هو العراق


الموصل 1991 م

( 4 )


...قوس قزح وانا


مثلك اولد ...
لا اصنع
احتضن قمم الجبال
اتهاوى نحو الوديان
اتجاوز الدفاتر السياسية
انغمر في قلوب الاحرار الذين لم تعفر
وجوههم لعبة الدمار
***
يا أيها الاحرار
هلموا نتسلق قوس قزح
هلموا نطلق الحروف المكبلة في كل لغات العالم
نعلن ان الزيف زيف
ان المعنى التائه قد وجد المكان
قد وجد الزمان

***
يا ايها الممسكون بالزناد
اوقفوا الطغيان
هذا العالم بيت الانسان
فلنبن البيت سلاما
فلنبن البيت سلاما
مؤتة/ الاردن 2003


( 5 )


قدسية الحرف


يا ايها الحرف
ما اعظمك كاتم اسرار
في اعماقك تتكيء رموزي
يتحول ضعفي الى قوة لانهائية
كالبذرة انت
عزائي انك ستورق على يد قادمين
لا ياسرهم قيد
ولا يقتلهم طغيان

***

مصراتة- ليبيا /1993



(6 )

من اجل عيون بغداد


يا ايتها المزن
املأى حقولنا زهرا
انثري على اهداب بغداد قطرات ندى
امسحي عن وجه بغداد لون الدم
انهمري كما كنت ابدا
كلانا يا مزن ، مزن
ولا ضفاف لنا سوى العراق
ولا ضفاف لنا سوى العراق

مؤتة / الاردن 2003

( 7)


حلم ...


الى الشهيد مازن محمد الحسو الذي عشق جمال بغداد واضناه رحيله عنها ...
الى شهداء الفكر والعلماء العراقيين الذين غيبهم التيه الجديد
فرحلوا قبل اوانهم
****



حلما ما تزال
وبعض حديث
بعد لم يكتمل
في وسط الدرب …
ككل الحالمين
معلقة في الهواء
كلماتك والبسمات
اتظل من حلم الى حلم تصير
أيان ما صدحت به احناؤنا من أغنيات
أيان متجه الربيع
وكيف تذوي الذكريات
في الاعظمية او في ربى الحدباء
او في كل ناد
اتقول ان الارض ضاقت
والوطن الحبيب الى شتات
هل كان هذا ما دعاك الى الرحيل ؟
*****
من ضمأ نحن يا ايها الصديق
وسط زحوف المياه
نوزع في رحلة الصمت افراحنا
ونغدو كما في كل يوم
نوزع بقايا الذات
في ذات الغرفة
من خشب وبعض حجارة وذكريات
( الجدول ) ملتصق فوق الباب
قضاؤنا يا ايها الصديق
ان نكتب باليمين وباليسار
ايدينا ليست للعودة
ايدينا تكتب في فرح مستقبل الاخرين
******
يا ايها القادم من ابد الاحزان
يا ايها العائد من حلم
يا ايها الحلم الذي يستوعب الزمان
هكذا انت
هكذا نحن
رحلتنا ليس لها انتهاء
رحلتنا ليس لها انتهاء


الموصل / 1984

(8)


محاولة للانعتاق



حرفا واحد*
شكلا واحد *
واحدا واحد *
كانت دنياي
ضجرت روحي
قالت ذاتي
فك عقالي
امنحني ان اسمع رأيا
ابعدني عن هذي الهوة
ابعدني عن هذي الجدران التترى ...
عن موت يأتي ما بين اللحظة واللحظة ...
اجمع ما بين الحرفين
اجمع ما بين الرأيين
اجمع ما بين البينين
اني اكل اجزائي
اني اقبع في غور الأزمان
اني لا زمن
اني اقبع في النسيان
الموصل 1992

---------------------------------

* التسكين هنا مقصود انسجاما مع مضمون القصيدة
• نشرت هذه المذكرات في مجلة : الاغتراب الادبي (العدد : 42 السنة الرابعة عشرة ، 1999
التي كان يصدرها في لندن الصديق العزيز الاديب الشاعر صلاح نيازي.


( 9 )


كلكامش و الزمن العراقي المعاصر


كتبت قصيدة النثر هذه في الثمانينات من القرن الماضي ، وقد اثرت ان انشرها
ردا على محاولات تمزيق العراق في ايامنا هذه حيث العذابات العراقية
لما تزل تعبرعن الحالة ذاتها

***




بين المولد في اوروك ، **
وثمالة اليوم الرابع من عمر العالم ، ***
سرقوا كلماتي ،
انتزعوها حرفا حرفا ،
كتبوا على حافة كل حرف :
ممنوع ان يتوحد او يعقل،
ممنوع ان يدرك او يبصر ،
حتى الحرف الواحد القي في زنزانة ،
نسي الحرف الواحد حبه ،
نسي الحرف الواحد صنوه ،
تكسرت المعادلة ،
قيم الزحف الجديد ،
تمتلك معولا وسيفا ،
الزحف ليس له عقل ،
اصبحت المدينة مرعى ،
اصبح المرعى خاويا ،
لم يعد السواد الاخضر اخضرا ،
تكسرت المعادلة ،
الوطن لم يعد مدنا ،
والمدن لم تعد وطنا ،
صار المحب قاتلا ،
صار القاتل مقتولا ،
جاء السراق
صنعوا شبه الحرف المسجون ،
حرفا ينطق بالعربية ،
حملوه في وسط الزحام ،
وضعوا في فيه مضغة ،
قال شيئا لم يفهمه الاحرار ،
لم يكن في الساحة حر ،
كان الاحرار في غور السجن المفتوح الأبواب ،
صار الحرف الزائف صفقة ،
بالانكليزية قال كلمة ،
قال اخرى بالعبرية :
لابد ان تمحي ذاكرة الزمان ،
خرافة بابل ،
اسطورة اشور ،
( ذي قار) لم تكن هنا ،
ولم تكن ( اقرأ) معلمة العالم ،
ولم يكن ثوار ،
لا .... لم يكن على الضفاف ههنا
جزيرة تحمل وجه الشمس ،

*********
في لعبة الشطرنج :
يجمعون ... يطرحون ... يقتلون .. ويجهلون ،
يا باب بغداد الموصد في وجه الشر ،
ان ابجدية الزمن لا تقبل القسمة ،
ان حروفنا المثخنة جراحا ،
هي مخاضنا الى ميلاد جديد
حبة قمح من شواطيء اوروك
تكفي ان تغمر العالم قمحا

الموصل 1980



* اوروك او الوركاء مدينة عراقية شهدت اختراع اول كتابة في التاريخ الانساني سنة 3500 قبل الميلاد .

** استفيد هنا من قوله تعالى : ّ ان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ّ ، اشارة الى ان سنة 3500 ق. م ، تمثل مرحلة النضج في عمر العالم القديم .


( 10 )

لحظة ضجر...


خارج اللعبة نطحن
داخل اللعبة نطحن
نحن الناس العاديين
في الخندق اليومي نواصل النضال بالكلام
نملؤه بجهلنا فقاعات
وعندما يتعبنا الدوار
ننام كالحجارة
نستيقض عندما ترفسنا احلامنا المنهارة
لاننا مبرمجون هكذا
لان ما يحكمنا هو المغالطة

مؤتة / الاردن 2005

( 11 )


من يغسل عار الاحياء


الساحة في الوطن الممتد الارجاء
ملأى بالناس وبالاشياء
لكن الشارع سجن ممتد
لم يعد احد ينطق حرفا
مات الحرف الاول و الثاني
مات الحرف الرابع
ماتت حروف الجزم
ماتت حروف العطف
قالت ام ثكلى
قالت اخرى
من ذا يقطع اوصال الشيطان
من ذا ينزع عنه جلباب الكهان
من يرجع العصفور يلتقط الحبة من جديد
متى يعود المزن
من يملأ السلات ثانية بالورد
من يزرع الزيتون
من يأكل الزيتون
من ذا يكسرجدران السجن على السجان

****
ليس في الساحة الا او لعل
ليس فيها غير مستثنى بالا
ليس فيها غير اجداث وثكلى
ليس الا صوتها المذبوح حزنا
ليس الا صرخة تنهال سؤلا
من يغسل عار الاحيا
انهض يا ولدي
اخرج من جوف الارض الحبلى
انهض يا ولدي
انهض
فلنفعل شيا
فلنفعل شيا

الموصل مؤتة/ الاردن
2003


( 12 )

عوفيت يا عراق


( كانت ابنتي تغني للعراق بكلمات من بنات افكارها
فاصغيت لها
وقد كتبت هذه القصيدة من وحي كلماتها مستخدما الاسلوب الذي اتبعته في التعبير عن حبها للعراق

***
الصوت الاول :

عراق يا عراق
في اي درب توغل
في اي غور تقبع
هلم يا عراق
هلم يا عراق


الصوت الثاني :


اني انا العراق
اني انا جراحكم
دموعكم
احلامكم
اني انا شمالكم ، جنوبكم
اني انا بغدادكم
اني انا في كل لون فيكم
مغيب وحاضر
ومدنف بعشقكم وصابر
فضمدوا جراحكم ولملموا اشلاءكم
وطهروا سماءكم وارضكم
اني انا من دونكم
من دون ان اكون انتم
من دون ان اضم كل لون فيكم
مغيب، مغيب ، مغيب

الصوت الثالث :

مهما ذوت اجسامنا
مهما تهاوى بعضنا عن بعضنا
اشلاؤنا قد اقسمت : حبيبنا العراق
حبيبنا العراق
***
مهما تناءى بعضنا عن بعضنا
وشرقت وغربت اراؤنا
فان حبا واحدا يجمعنا:
حبيبنا العراق
حبيبنا العراق

***

هذي الربى لو نطقت
وعن دمانا حدثت
لاطلقت نشيدها وزغردت
حبيبنا العراق
حبيبنا العراق
***
عراق يا عراق
اواه ياعراق
عوفيت يا عراق
عوفيت يا عراق

مؤتة /الاردن 2003